في قلب صعيد مصر، وتحديداً في محافظة قنا، تتجدد مع إشراقة شمس كل عيد أضحى عادةٌ فريدة من نوعها، راسخة في وجدان الأهالي منذ ما يزيد على عشرين عاماً متواصلاً. فبينما ينشغل الجميع بطقوس العيد وذبح الأضاحي، يتجه فريق من المتطوعين لإحياء تقليد بسيط في مظهره، عميق في معناه، وهو توزيع "الفول النابت" على المارة والمحتفلين.

 

هذا المشهد لا يمثل مجرد توزيع للطعام، بل أصبح رمزاً للكرم والتكافل الاجتماعي، وعلامة مسجلة تضفي على فرحة العيد في قنا نكهة خاصة من المودة والألفة المجتمعية التي تجمع بين مختلف أطياف السكان في لوحة إنسانية بديعة.

 

عادة متجذرة.. قصة بدأت قبل عشرين عاماً

بدأت هذه المبادرة قبل عقدين من الزمن على يد إحدى العائلات في قنا، التي أرادت أن تشارك جيرانها وأهل منطقتها فرحة العيد بطريقة غير تقليدية ومتاحة للجميع. لم تكن البداية سوى بقدر صغير يوزع على عدد محدود، لكن الفكرة لاقت استحساناً كبيراً وتفاعلاً شعبياً واسعاً، مما شجع القائمين عليها على التوسع عاماً بعد عام.

 

ويُعد تحضير "الفول النابت" نفسه طقساً يتطلب جهداً وصبراً، حيث يتم نقع الفول الجاف في الماء لعدة أيام حتى تظهر براعمه، ثم يُطهى مع إضافة الكمون والليمون والبهارات الخاصة. إن هذا الجهد المبذول يضفي قيمة معنوية كبيرة على الطبق، ويجعله هدية محملة بمشاعر المحبة والاهتمام، وليس مجرد وجبة عابرة.

 

أجواء احتفالية وتفاعل شعبي واسع

مع الساعات الأولى لصباح يوم العيد، وبعد انتهاء الصلاة، يبدأ المشهد الاحتفالي في أحد الشوارع الرئيسية بالمدينة. تُنصب القدور الكبيرة التي تفوح منها رائحة الفول النابت الزكية الممزوجة بالبهارات، ويتجمع حولها الأهالي من كل الأعمار، من الأطفال الذين يحملون أطباقاً صغيرة بابتسامات عريضة، إلى كبار السن الذين يستعيدون ذكرياتهم مع هذه العادة السنوية.

 

لا يقتصر التوزيع على الفقراء والمحتاجين، بل يمتد ليشمل الجميع، في تأكيد على أن الهدف هو مشاركة الفرحة وتعزيز الروابط الإنسانية تتحول عملية التوزيع إلى ملتقى اجتماعي عفوي، يتبادل فيه الناس التهاني والتبريكات، وتتعالى فيه الضحكات والأحاديث الودية، مما يخلق جواً من البهجة الخالصة.

 

شهادات حية.. الأهالي يروون مشاعرهم

يعبر الأهالي عن تقديرهم العميق لهذه المبادرة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من طقوس العيد لديهم. يقول الحاج مصطفى، وهو رجل سبعيني من سكان المنطقة، وهو يتسلم حصته من الفول:"ننتظر هذا اليوم كل عام ليس فقط من أجل طعم الفول اللذيذ، ولكن من أجل الروح الجميلة التي نراها هنا. هذه العادة تذكرنا بأن الخير ما زال موجوداً، وأن أهل قنا يداً واحدة في الفرح. إنها تعيد إلينا إحساس الجيرة والألفة الحقيقية التي كادت أن تندثر".

 

من جانبه، يؤكد أحد الشباب المتطوعين في عملية التوزيع:"إن رؤية السعادة على وجوه الناس، كباراً وصغاراً، هي المكافأة الحقيقية لنا. نشعر بأننا نقدم شيئاً بسيطاً لكنه يترك أثراً كبيراً في نفوسهم. هذا العمل ورثناه عن آبائنا، ونأمل أن نورثه لأبنائنا ليظل هذا التقليد حياً ومستمراً".

 

أكثر من مجرد طعام.. رمز للتكافل الاجتماعي

في نهاية المطاف، تتجاوز عادة توزيع "الفول النابت" في قنا كونها مجرد تقليد غذائي مرتبط بالعيد، لتصبح مثالاً حياً على مفهوم التكافل الاجتماعي بأبسط صوره وأكثرها تأثيراً.

 

إنها تجسيد لقيم العطاء والمشاركة التي يحث عليها الدين، وتعبير صادق عن أصالة المجتمع الصعيدي وترابطه. في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتباعد المسافات بين الناس، تأتي هذه المبادرة لتعيد بناء الجسور المجتمعية، وتؤكد على أن السعادة الحقيقية تكمن في المشاركة والعطاء.

 

ويبقى الأمل معقوداً على استمرارية هذه العادة الطيبة، لتظل شعلة من الدفء الإنساني تضيء احتفالات عيد الأضحى في قنا لأجيال قادمة.