عادت قضية بث أذان الفجر عبر مكبرات الصوت الخارجية للمساجد لتطفو على السطح مجدداً، مثيرةً جدلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي وفي الأوساط الثقافية في عدد من الدول العربية.

 

فبينما ترتفع أصوات تطالب بوقف هذا البث أو تقنينه بشدة بدعوى مراعاة السكينة العامة وحقوق الآخرين، يقف الأزهر الشريف ومؤسسات دينية أخرى موقفاً حازماً، مؤكدين أن الأذان شعيرة إسلامية أساسية لا يمكن حجبها أو تحجيمها، وأن صوتها جزء لا يتجزء من هوية المجتمعات المسلمة.

 

وقد تحول النقاش من مجرد تباين في وجهات النظر إلى استقطاب حاد يعكس توترات أعمق بين مفاهيم الحداثة المدنية والتمسك بالثوابت الدينية والمظاهر الإيمانية العامة.

 

حجج المنادين بوقف البث الخارجي

يستند أصحاب الطرح الداعي إلى منع استخدام الميكروفونات في أذان الفجر إلى مجموعة من المبررات التي يصفونها بالمدنية والحقوقية. فهم يرون أن الصوت المرتفع في وقت مبكر جداً من الصباح يشكل إزعاجاً للمرضى وكبار السن والأطفال، فضلاً عن المواطنين غير المسلمين الذين يعيشون في نفس الأحياء.

 

ويضيف هؤلاء أن الهدف الأساسي من الأذان هو إعلام المسلمين بدخول وقت الصلاة، وهو هدف يمكن تحقيقه اليوم بوسائل حديثة أكثر خصوصية، مثل تطبيقات الهواتف الذكية والمنبهات الرقمية، دون الحاجة إلى بث عام قد يسبب إزعاجاً.

 

كما يشير البعض إلى أن تعدد المساجد في منطقة واحدة يؤدي إلى تداخل الأصوات بشكل مزعج، مما يفقد الأذان روحانيته ويحوله إلى ضوضاء، وهو ما لا يتفق مع مقاصد الشريعة التي تدعو إلى اليسر ورفع الحرج.

 

الأزهر يرد: الأذان شعيرة ظاهرة لا يمكن حجبها

في مقابل هذه الدعوات، جاء الرد من المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، قوياً وحاسماً. فقد أكد عدد من العلماء البارزين أن النظر إلى الأذان باعتباره مجرد "تنبيه" هو تبسيط مخلّ لمعناه ووظيفته.

 

وفي هذا السياق، برز تصريح لأحد أساتذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر، الذي شدد على أن الأذان ليس مجرد إعلام، بل هو "شعيرة ظاهرة" وإعلان عام بهوية الأرض التي يُرفع عليها. وقد جاء في تصريح منسوب له:"الأذان ليس مجرد تنبيه شخصي للمصلين، بل هو إعلان عام بدخول وقت الصلاة، وشعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة التي تميز ديار المسلمين. والقول بمنعه في المكبرات هو دعوة لطمس هوية المجتمع وتجريده من مظاهره الإيمانية الأصيلة. إن صوت الحق الذي يصدح من المآذن هو رسالة طمأنينة ورمزية روحية تتجاوز مجرد إيقاظ الناس للصلاة."

 

وأوضح العلماء أن الأصل في الشعائر الدينية هو الإظهار والإعلان، وأن تقييدها بدعوى الإزعاج يفتح الباب أمام التضييق على ممارسات دينية أخرى، مؤكدين أن التعايش المجتمعي يقتضي احترام خصوصية كل فئة، بما في ذلك المظهر الديني العام للمجتمع ذي الأغلبية المسلمة.

 

بين التنظيم والمنع: إطار قانوني وتاريخي

لا يعد هذا الجدل وليد اللحظة، فقد شهدت العديد من الدول الإسلامية نقاشات مماثلة على مر العقود الماضية. وقد أدى ذلك في بعض الحالات إلى تدخل الجهات الرسمية، ممثلة في وزارات الأوقاف والشؤون الدينية، لوضع ضوابط لتنظيم استخدام مكبرات الصوت.

 

وتشمل هذه الضوابط غالباً تحديد عدد المكبرات المسموح بها لكل مسجد، وضبط درجات الصوت عند مستويات معقولة، وفي بعض الأحيان تم تطبيق مشروع "الأذان الموحد"، حيث يتم بث الأذان من مسجد رئيسي واحد وتستقبله بقية المساجد عبر أجهزة الراديو لضمان توحيد الصوت ووقته.

 

وتهدف هذه الإجراءات إلى إيجاد حل وسط يحافظ على شعيرة الأذان ويقلل في الوقت نفسه من أي آثار سلبية محتملة، مما يمثل محاولة للموازنة بين الحق في ممارسة الشعائر الدينية علناً ومتطلبات الحياة المدنية الحديثة.

 

انقسام مجتمعي ومستقبل القضية

يعكس هذا الاستقطاب الحاد حول أذان الفجر حالة من الانقسام في الرأي العام. فبينما يرى فريق أن الأمر يتعلق بالراحة العامة والتطور المجتمعي، يراه فريق آخر مساساً خطيراً بالهوية الدينية ومحاولة لعلمنة الفضاء العام. وتشتعل منصات التواصل الاجتماعي بالنقاشات التي يتبادل فيها الطرفان الاتهامات، ما بين "التطرف الديني" و"الانسلاخ من الهوية".

 

ويبدو أن هذه القضية ستظل نقطة خلاف دورية، تتطلب حواراً مجتمعياً هادئاً ورصيناً، وجهداً من المؤسسات الدينية والمدنية معاً للوصول إلى صيغة توافقية تحترم الثوابت الدينية وتحقق السكينة المجتمعية، وتؤكد على أن قيم الإسلام السمحة قادرة على استيعاب متطلبات العصر دون التفريط في جوهرها وشعائرها.